فصل: أقسام الرأي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.أقسام الرأي:

وإذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام:
رأي باطل بلا ريب ورأي صحيح ورأي هو موضع الاشتباه والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله.
والقسم الثالث سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد ولم يلزموا أحد العمل به ولم يحرموا مخالفته ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه كما قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال لي عند الضرورة وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار وكان أسهل عليهم من حفظها كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتعسر حفظه فلم يتعدوا في استعماله قدر الضرورة ولم يبغوا العدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكى والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها.

.فصل في أنواع الرأي الباطل:

والرأي الباطل أنواع:
أحدها: الراى المخالف للنص وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به ولا القضاء وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.
النوع الثاني: هو الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم من غير نظر إلى النصوص والآثار فقد وقع في الرأي المذموم الباطل.
النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا فقابلوا النوع الأول بالتكذيب والنوع الثاني: بالتحريف والتأويل فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده وأنكروا مباينته للعالم واستواءه على عرش وعلوه على المخلوقات وعموم قدرته على كل شيء بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن الإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه واخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله وحرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه ذبالة الأذهان ونخالة الأفكار وعفارة الآراء ووساوس الصدور فملأوا به الأوراق سوادا والقلوب شكوكا والعالم فسادا وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي والهوى على العقل وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل وأميت بها من هدى وأحي بها من ضلالة وكم هدم بها من معقل الإيمان وعمر بها من دين الشيطان وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل بل هم شر من الحمر وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن وعم به البلاء وتربى عليه الصغير وهرم فيه الكبير.
فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين.
النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم: «أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل وفرعت وشققت قبل أن تقع وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن قالوا وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء» ثم ذكر من طريق أسد بن موسى ثنا شريك عن ليث عن طاووس عن ابن عمر قال لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن ثم ذكر من طريق أبي داود ثنا إبراهيم بن موسى الرازي ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الأغلوطات».
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي بإسناده مثله وقال: فسره الأوزاعي يعني صعاب المسائل وقال الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن عبادة بن قيس الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده فقال أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل؟!.
وقال أبو عمر: واحتجوا أيضا بحديث سهل وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها وبأنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال».
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها» قال أبو بكر هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد وهو خلاف لفظ الموطأ قال أبو عمر: وفي سماع أشهب سئل مالك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال فقال: «أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة السؤال فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وقال الله عز وجل: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء» وقال الأوزاعي: عن عبدة بن أبي لبابة: «وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم».
قال: واحتجوا أيضا بما رواه ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته» وروى ابن وهب أيضا قال حدثني ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم» وقال سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: «أحرج بالله على كل امرىء سأل عن شيء لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن».
وقال أبو عمر: وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم كلهن في القرآن يسألونك عن المحيض يسألونك عن الشهر الحرام يسألونك عن اليتامى ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم» قال أبو عمر: «ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث».
قلت: ومراد ابن عباس بقوله: «ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة» المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامه بالسنة لا تكاد تحصى ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}.
وقد اختلف في هذه الأشياء المسئول عنها: هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية؟ على قولين: فقيل: إنها أحكام شرعية عفا الله عنها أي سكت عن تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها ولو لم يسألوا لكانت عفوا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الحج: أفي كل عام؟ فقال: «لو قلت نعم وجبت ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» ويدل على هذا التأويل حديث أبي ثعلبة المذكور: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما» الحديث ومنه الحديث الآخر: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وفسرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية كقول عبد الله بن حذافة: «من أبي يا رسول الله» وقول آخر: «أين أبي يا رسول الله» قال: «في النار» والتحقيق أن الآية تعم النهي عن النوعين وعلى هذا فقوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أما في أحكام الخلق والقدر فإنه يسؤهم أن يبدو لهم ما يكرهونه مما سألوا عنه وأما في أحكام التكليف فإنه يسؤهم أن يبدو لهم ما يشق عليهم تكليفه مما سألوا عنه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه قولان: أحدهما أن القرآن إذا نزل بها ابتداء بغير سؤال فسألتم عن تفصيلها وعلمها أبدى لكم وبين لكم والمراد بحين النزول زمنه المتصل به لا الوقت المقارن للنزول وكأن في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا والقول الثاني أنه من باب التهديد والتحذير أي ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسؤكم والمعنى لا تتعروا للسؤال عما يسوءكم بيانه وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم.
وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عن بيانها خبرا وأمرا بل طوى بيانها عنكم رحمة ومغفرة وحلما والله غفور حليم فعلى القول الأول عفا الله عن التكليف بها توسعة عليكم وعلى القول الثاني عفا الله عن بيانها لئلا يسؤكم بيانها.
وقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أراد نوع تلك المسائل لا أعيانها أي قد تعرض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل فلما بينت لهم كفروا بها فاحذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له.
ولم ينقطع حكم هذه الآية بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله ومن هاهنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا صاحب الميزاب لا تخبرنا لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوءه إن أبدي له فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله فإنه سبحانه يكره إبداءها ولذلك سكت عنها والله أعلم. اهـ.

.من فوائد الشاطبي:

قال عليه الرحمة:
الإكثار من الأسئلة مذموم:
والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح من ذلك قوله تعالى: {أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}.